عندما كنت صغيرا كان جدّي (يرحمه الله ) هو الذي يتسوّق للعائلة. وحتى الأقمشة النسائية، كان هو الذي يحضرها لتختار منها سيدات البيت. أمّا الخيار الآخر للتسوّق فكان من خلال زيارة البائعات للبيت وهن يصطحبن «بقجة» يحملن بداخلها الاقمشة الزاهية لتسويقها في الحي. أمّا سيدات اليوم، فالتسوق لهن يعني التنزّه في «مولات» فارهة تزدان بالنوافير وبملاعب الأطفال المبهجة. وفي الغد القريب، سيكون التسوّق من خلال جهاز حاسوب صغير يندس في جيوبنا. سيمكن من خلاله الاتصال المباشر مع الأسواق الالكترونية وشراء كل ما يحتاجه الانسان.
تلكم هي بعض صور التسوّق وتطوّره عبر الأجيال. وكما تتطوّرالأسواق، كذلك يتوالى المراقبون والمنظّرون والمفكّرون ليدونوا آراءهم حول هذه الأسواق. ومن هنا برز الى العالم بعض علماء الاقتصاد الذين انشغلوا بنظريات السوق والرأسمالية وكيف ينبغي أن تكون أو لا تكون! ولا شك أن البيئة والظروف ساعدت على تكوين نظريات وآراء هؤلاء العلماء. ولهذا فمن الخطأ أن نجزم بأن هذا العالم هو على حق، وذاك مخطئ. والسبب في هذا هو أنّ تبدّل المكان والزمان يقتضي إعادة النظر في هذه الآراء بصفة دائمة.
ولنبسّط سويا بعض الملامح الرئيسة في آراء أهم علماء االرأسمالية عبر التاريخ. فلقد نادى أبو الرأسمالية واسمه «آدم سميث» (1776) بأنّ أفضل شيء للأسواق هو تركها وشأنها دون تدخّل من حسيب ولا رقيب. وقال بأن هناك «يد خفيّة» ستقوم بتنظيم السوق بتلقائية طبيعية. وأضاف بأن تحقيق النفع الفردي في الأسواق سينتج عنه بالضرورة صلاح المجتمع كلّه. ولكنّ إطلاق حرّية الفرد بشكل مطلق، لم يلق استحسانا من العالم الاجتماعي الألماني «ماكس ويير» (1904). فلقد أصرّ الأخير على ضرورة وجود رقيب على تصرّفات الفرد في الأسواق. ولكنّ هذا الرّقيب هو ضمير الانسان ومراقبته لخالقه. وهكذا أضاف «ويبر» عنصر الأخلاق لنظرية الرأسمالية.
واذا كانت الظروف تساعد على تشكيل آراء الانسان، فلقد تجسّد هذا تماما في رأي الاقتصادي الانجليزي «جون مينارد كينز» (1937). فلقد تبلورت آراء «كينز» خلال الكساد الكبير الذي اجتاح الولايات المتّحدة في الثلاثينيات من آخر القرن الماضي. فلقد ظهر لذلك العالم بأنّ أسباب الأنهيار الاقتصادي الذي فتك بأكبر اقتصاد في العالم، كان مردّه الانفلات الرأسمالي الذي نادى به أبو الرأسمالية «آدم سميث». ولذلك فمن الضروري بل والمحتّم أن توضع ضوابط وأنظمة كثيفة لمراقبة أنشطة الأسواق، خصوصا المالية منها، حتى يخرج الاقتصاد العالمي من تلك الحقبة المظلمة.
أمّا آخر الأسماء التي دوت في سماء التنظير الرأسمالي هو «ملتون فريدمان» الذي توفي قبل أعوام قليلة، بعد أن حصل على جائزة نوبل في الاقتصاد. ولقد تلخّصت أفكار «فريدمان» في تحرير الاقتصاد من كافّة القيود والأنظمة، واطلاق يد القطاع الخاص في معظم الأنشطة ذات الطابع الاقتصادي. وبرغم تفوقه النظري الأكاديمي، إلاّ أن افكاره تعتبر هي بذور الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالعالم اليوم. وخلال الأسبوع الثاني من شهر أكتور 2008 الحالي، فاز الاقتصادي الأمريكي «كروجمان» بجائزة نوبل للاقتصاد. ولقد عرف عن هذا الرّجل انتقاده الشديد والقاسي لسياسة «بوش» الاقتصادية. ولقد اطلعت على أفكار هذا الرجل بعموده الأسبوعي في جريدة «نيويورك تايمز»، وأعجبت بآرائه خصوصا خلال هذه الأزمة الأخيرة.
الرّسالة التي وددت إيصالها للقارئ الكريم، هي أن الرأسمالية ليست صورة منحوتة في الصخر متجمّدة. بل هي صيغ مختلفة لكيفية عمل الأسواق عبر الأجيال. وإلقاء اللوم على مطلق الرأسمالية يشبه الى حد ما، إلقاء لوم التطرّف الاسلامي على ديننا الحنيف، وهذا مجانب للصواب. وللحديث بقية إن شاء الله.
smrshaikh33@gmail.com
للتواصل ارسل رسالة نصية sms إلى الرقم 88548 تبدأ بالرمز 117 مسافة ثم الرسالة
تلكم هي بعض صور التسوّق وتطوّره عبر الأجيال. وكما تتطوّرالأسواق، كذلك يتوالى المراقبون والمنظّرون والمفكّرون ليدونوا آراءهم حول هذه الأسواق. ومن هنا برز الى العالم بعض علماء الاقتصاد الذين انشغلوا بنظريات السوق والرأسمالية وكيف ينبغي أن تكون أو لا تكون! ولا شك أن البيئة والظروف ساعدت على تكوين نظريات وآراء هؤلاء العلماء. ولهذا فمن الخطأ أن نجزم بأن هذا العالم هو على حق، وذاك مخطئ. والسبب في هذا هو أنّ تبدّل المكان والزمان يقتضي إعادة النظر في هذه الآراء بصفة دائمة.
ولنبسّط سويا بعض الملامح الرئيسة في آراء أهم علماء االرأسمالية عبر التاريخ. فلقد نادى أبو الرأسمالية واسمه «آدم سميث» (1776) بأنّ أفضل شيء للأسواق هو تركها وشأنها دون تدخّل من حسيب ولا رقيب. وقال بأن هناك «يد خفيّة» ستقوم بتنظيم السوق بتلقائية طبيعية. وأضاف بأن تحقيق النفع الفردي في الأسواق سينتج عنه بالضرورة صلاح المجتمع كلّه. ولكنّ إطلاق حرّية الفرد بشكل مطلق، لم يلق استحسانا من العالم الاجتماعي الألماني «ماكس ويير» (1904). فلقد أصرّ الأخير على ضرورة وجود رقيب على تصرّفات الفرد في الأسواق. ولكنّ هذا الرّقيب هو ضمير الانسان ومراقبته لخالقه. وهكذا أضاف «ويبر» عنصر الأخلاق لنظرية الرأسمالية.
واذا كانت الظروف تساعد على تشكيل آراء الانسان، فلقد تجسّد هذا تماما في رأي الاقتصادي الانجليزي «جون مينارد كينز» (1937). فلقد تبلورت آراء «كينز» خلال الكساد الكبير الذي اجتاح الولايات المتّحدة في الثلاثينيات من آخر القرن الماضي. فلقد ظهر لذلك العالم بأنّ أسباب الأنهيار الاقتصادي الذي فتك بأكبر اقتصاد في العالم، كان مردّه الانفلات الرأسمالي الذي نادى به أبو الرأسمالية «آدم سميث». ولذلك فمن الضروري بل والمحتّم أن توضع ضوابط وأنظمة كثيفة لمراقبة أنشطة الأسواق، خصوصا المالية منها، حتى يخرج الاقتصاد العالمي من تلك الحقبة المظلمة.
أمّا آخر الأسماء التي دوت في سماء التنظير الرأسمالي هو «ملتون فريدمان» الذي توفي قبل أعوام قليلة، بعد أن حصل على جائزة نوبل في الاقتصاد. ولقد تلخّصت أفكار «فريدمان» في تحرير الاقتصاد من كافّة القيود والأنظمة، واطلاق يد القطاع الخاص في معظم الأنشطة ذات الطابع الاقتصادي. وبرغم تفوقه النظري الأكاديمي، إلاّ أن افكاره تعتبر هي بذور الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالعالم اليوم. وخلال الأسبوع الثاني من شهر أكتور 2008 الحالي، فاز الاقتصادي الأمريكي «كروجمان» بجائزة نوبل للاقتصاد. ولقد عرف عن هذا الرّجل انتقاده الشديد والقاسي لسياسة «بوش» الاقتصادية. ولقد اطلعت على أفكار هذا الرجل بعموده الأسبوعي في جريدة «نيويورك تايمز»، وأعجبت بآرائه خصوصا خلال هذه الأزمة الأخيرة.
الرّسالة التي وددت إيصالها للقارئ الكريم، هي أن الرأسمالية ليست صورة منحوتة في الصخر متجمّدة. بل هي صيغ مختلفة لكيفية عمل الأسواق عبر الأجيال. وإلقاء اللوم على مطلق الرأسمالية يشبه الى حد ما، إلقاء لوم التطرّف الاسلامي على ديننا الحنيف، وهذا مجانب للصواب. وللحديث بقية إن شاء الله.
smrshaikh33@gmail.com
للتواصل ارسل رسالة نصية sms إلى الرقم 88548 تبدأ بالرمز 117 مسافة ثم الرسالة